الحروب الصليبية منذ أن وجدت وإلى يومنا هذا تُناقض تماماً الدعوات التبشيرية للمسيحيين الداعية إلى السلام فتكون تطبيقاتهم مناقضة لقيمهم ومفاهيمهم المعلنة عن المسيحية ، وهذا ناشئ من التناقض الواقع في نصوص العهد الجديد ورجوعهم إلى كتاب العهد القديم وإيمانهم به على أنه كتاب مقدّس وأساس لهم في الشريعة وهو يحمل هذه الدعوات ، فوقعوا في اضطراب في السلوك وازدواجية في المعايير وتكاذب فيما يدعون إليه ، ففي إنجيل متى: إصحاح10: 34 يقول السيد المسيح : (( لاَ تَظُنُّوا أنَّي جِئتُ لأُلقِي سَلاًماً عَلَى الأرض . مَا جئتُ لأُلقِي سلاماً بَلْ سيفاً .35 فَإنِّي جِئتُ لأُفرِّقَ الإنسانَ ضِدَّ أبيهِ ، والإبنةَ ضِدَّ أُمِّها ، والكنَّةَ ضِدَّ حَماتِها )) .
وفي إنجيل لوقا : إصحاح 12 :49 يقول السيد المسيح : (( جِئتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأرضِ ، فَمَاذا أُريدُ لَوْ أضْطَرَمَتْ ؟ . وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا ، وَكَيفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ ؟ 51 أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُعطِيَ سَلاَماً عَلَى الأرضِ ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ ! بَلِ أنقِسَاماً . 52 لأنَّه يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنقسمينَ : ثَلاثَةٌ عَلَى أثنين وَأثنَانِ عَلى ثَلاَثَةٍ . 53 يَنْقَسِمُ الأبُ عَلَى الابنِ والابْنُ عَلَى الأبِ ، وَالأُمّ ُعَلَى البِنتِ وَالبِنْتُ عَلَى الأُمِّ ، والحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِها)) .
وهذه النصوص موافقة تماماً لما موجود في كتاب العهد القديم (التوراة) ومتناغمة مع تشريعات كتاب التلمود اليهودي ، ومن هنا ندرك أنَّ الصليبيين الغربيين يعتمدون في تطبيقاتهم على هذه النصوص وأمثالها ويمنحوها شرعية وقداسة ، بينما تجدهم يعتمدون في دعواتهم التبشيرية على نصوص مناقضة لما ذكرنا كما في ( إنجيل متى 52:26) : (( ...لأنَّ كل الذين يأخذون السيفَ بالسيف يهلكون)) وكما ورد أيضاً على لسانه[C]في انجيل متى (5 : 39:38) ((سمعتم أنَّه قيل عينٌ بعين وسنٌّ بسن ، وأمَّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمَكَ على خدِّك الأيمن ، فحوِّل له الآخر أيضاً )) .
وفي إنجيل متى /رسائل بولس الرسول إلى أهل رومية إصحاح (17:12-21) حيث ورد على لسانهِ ((لا تجازوا أحداً عن شرٍّ بِشرٍّ ، معتنين بأمور حسنة قدَّام جميع الناس . .. لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحباء ، بل أعطوا مكاناً للغضب ... لا يغلبنك الشر ، بل اغلب الشر بالخير )) .
فكانت الدعوات المسيحية التبشيرية الغربية تستعين بهذه النصوص لجعلها أغطية يتسترون بها ويتظاهرون أمام العالم وكأنهم الحمل الوديع المسالم الداعي إلى المحبة والسلام بينما نجد الواقع الخارجي في تطبيقاتهم أنَّهم يرتكبوا الفساد ويسفكوا الدماء ويخربوا العالم بإسم الرب والصليب ، وجرت هذه الأمور بقيادة بابوية الكنيسة الكاثوليكية ، والأنظمة الرجعية المرتبطة بها ، وبرزت هذه الممارسات الإزدواجية بصورة واضحة للعيان بعد موت القديس (باسيل) عام 1025م وظهور الحروب الصليبية التي أعادت نشاط حروب الدولة الرومانية ضد الإسلام والمسلمين منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية وما بعدها ، فكان موت (باسيل) له الأثر البالغ في ظهور هذا التحول في سياسة الكنيسة إلى ما آلت إليه من تبني حروب عدوانية ضد الإنسانية تحت مسميات مختلفة منها الحروب الصليبية ومنها محاكم التفتيش وما يصحبهما من ترويج لمعتقدات وتشريعات مبتدعة من أجل أن تخدم المرحلة وهي مخالفة لبعض ما يؤمن به (باسيل) حيث أنَّ (( رأي القدِّيس (باسيل القبادوني) وهو أعظم مشرِّعي الكنيسة البيزنطية ، أنَّ الشهيد هو فقط من يموت متسلحاً بالإيمان وليس من يُقتل في الحرب ضدَّ الأعداء ، بل إنَّ (باسيل) يوصي الجندي الذي قتل عدوه في الحرب أن يكفِّر عن ذنبهِ بالإبتعاد ثلاث سنوات عن الجماعة المسيحية)) ([1]) .
وبموته قد ختمت مرحلة مسيحية وابتدأت مرحلة جديدة في أوربا لتُمَثِّل لهم نقطة تحول كبيرة وانعطافة نحو التوسع في تفسير وتأويل النصوص الدينية وخصوصاً في طرق التعامل مع أرباب الديانات الأخرى وتصنيفها وكذا مواجهة الطروحات والنظريات الحديثة والإجتهادات المخالفة لهم ، واعتمادهم نصوص الإخبارات الغيبية وتلاعبهم بعواطف وعقول الناس وفق رؤاهم المرحلية ومنها تفسير الظواهر الكونية الفلكية والطبيعية وتطبيقها على اقتراب نهاية العالم في الألفية الأولى لميلاد السيِّد المسيح [C] بأمل أن يظهر السيد المسيح من جديد إلى العالم ويُحقق لهم الخلاص كما تكرر حدوث هذا أيضاً في الألفية الثانية حيث ضجَّ الغرب لهذا الأمل في الظهور ، كما قاموا أيضاً بتسييس الخطاب الديني والعمل على تطبيق مضامينه الفاسدة وفق منظور المتعصبين المتطرفين وذوي الأطماع التوسعية الإستعمارية والتبشيرية والدعوة إلى تحرير كنيسة الرب في فلسطين التي ولد وعاش فيها السيِّد المسيح [C] ، وكذا أصبحت تُمنح صكوك الغفران المبتدعة للمقاتلين والسائرين على هذا الدرب للتكفير عن ذنوبهم وخطاياهم ، وكذا حث البابا والقساوسة المسيحيين الغربيين بقوَّة للذهاب إلى حج بيت المقدس وزيارة الكنيسة التي ولد فيها السيد المسيح [C]والمنطقة التي عاش فيها واقتفاء آثاره والتبرك بها حتى أستغلت هذه الزيارات الدينية وأصبحت ذات طابع سياسي وتسليحي فكانت مقدماتها شبيهة إلى حدٍ ما بتنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين ، فأعتاد الغربيون حينئذٍ على طابع مميزٍ وهو عسكرة الحج بحملهم السلاح الشخصي معهم إلى فلسطين ، وأخذت تراود البابوية الأفكار والتطلعات التوسعية والتبشيرية الكثيرة والمعتمدة على أسس ومباني مبتدعة ومنحرفة وفاسدة فكراً وممارسة وفي جوانب متعددة منها الديني والسياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي وساعدهم على تبني هذا المنهج مضافاً للنصوص الدينية هو ضعف الإقتصاد الأوربي ووجود نقص في المحاصيل الزراعية وتردي الشعب إلى الفقر المُدقع واستعباده من قبل رجال الكنيسة والأمراء والإقطاعيين حتى وصل الحال بهم إلى المجاعة مما إضطرهم إلى أكل الحيوانات والزواحف القذرة كما أكلوا لحوم البشر ، وبهذا سهل على القادة اقتيادهم وزجّهم في الحروب الصليبية وبذرائع شتَّى كالطائفية والإقتصادية والعنصرية ...إلخ ، وبهذه المسلكية الشيطانية جَنَّدوا الشعوب الأوربية ليناقضوا صراحةً تعاليمهم المسيحية التي يُبَشِّروا بها العالم والتي كانت على لسان السيِّد المسيح [C] كما يدَّعون ولسان الرسول بولس وآخرين غيرهم ، ونتيجة ذلك ظهرت الحملات الصليبية بتوجيه ورعاية الكنيسة الكاثوليكية بإسم الرب وأعتبروها (الحرب المُقدَّسة) ووصفوا الجندي الصليبي بأنَّه (جندي الرب) الذي يحمل شارة الصليب ، فدعت البابوية الفرسان الإقطاعيين والأمراء والمتنفذين في السلطة إلى المشاركة الفاعلة في الحملة الصليبية ، فنشأت هذه الحروب في سنة (1096م) واستمرت في مراحل وحملات إلى سنة 1291م ولكنَّها واقعاً لم تنتهي بعد هذا التأريخ الذي يذكره المؤرخون ، بل امتدت إلى قرونٍ أخرى تُحارب وتُبيد المسلمين العرب وغير العرب حتى وصلت إلى يومنا هذا تحت عناوين جديدة وأغطية متنوعة ، والمهم أنَّ المحارب الصليبي كان يضع شارة الصليب على ثيابه وسلاحه وقد استثيرت عواطفه الطائفية العصبية لتحقيق أهداف دينية وأيضاً لكي يُكفِّر عن خطاياه حيث يمنحه البابا صك الغفران إضافة إلى بحثه عن خيرات ينتعش من ورائها ولا ينسى في طريقه القيام بالدعوة التبشيرية إلى المسيحية ، فقامت أوربا بحركة استعمارية توسعية بإسم الدِّين لغزو البلاد العربية الإسلامية واستعمارها والسيطرة على الأراضي المقدسة ، ففي نوفمبر عام 1095م عقد بابا الفاتيكان أُوربانوس الثاني في مجمع كليرمونت مؤتمراً في وسط فرنسا وألقى فيه خطبة دعا فيها إلى انتزاع السيطرة على القدس من يد المسلمين بقولهِ : ( إنِّي أخاطب الحاضرين ، وأعلن لأولئك الغائبين ، فضلاً عن أنَّ المسيح يأمر بهذا ، أنَّه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية سواء في مسيرتهم على الأرض ، أو أثناء عبورهم البحر ، أو في خضَم قتالهم ضدَّ الوثنيين ، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إيَّاها ...) (1) ، وكذا قول البابا أوربانوس : (إنَّ من يذهب إلى أورشليم ، بدافع من الإخلاص فقط ، وليس طلباً للشرف أو المال ، لتحرير كنيسة الرب ، يمكن أن يجعل هذه الرحلة بديلاً من أي عملٍ يُكفِّر به عن خطاياه)(2)، وكانت حملة التجنيد الصليبي واسعة ومنتشرة في عموم أوربا فنجد أنَّ (برنار)رئيس دير كليرفو يحثُّ أبناء الغرب الأوربي على الذهاب في الحملة الصليبية ، وكان ذلك بتفويض من البابا أجينيوس الثالث ، وقد ذكر (برنار) رئيس الدير في واحدة من خطبه الدعائية لهذه الحملة : (أيها الجندي الباسل ، يا رجل الحرب ، الآن لديك قضية تجعلك تقاتل دون أن يحيق الخطر بروحك ، قضية النصر فيها مجيد ، والموت في سبيلها مكسب . أم تراك رجل أعمال ناجح يدرك مكاسب هذه الدنيا بسرعة ؟ فإذا كنت كذلك فإنَّ بإستطاعتي أن أقدِّم لك صفقة محترمة ، فلا تجعل هذه الفرصة تفوتك . خذ شارة الصليب ، وفي الحال ستنال الغفران على كل خطاياك التي اعترفت بها بقلبٍ نادم . ولن يكلفك كثيراً أن تشتري مكافأة السماء إذا ارتديت شارة الصليب في تواضع) (1) .
وكما ذكرنا أنَّ العنصر الغيبي له الأثر البالغ في تحفيز الشعوب الأوربية نحو إرادتهم لتحقيق بعض الوعود التي هي من علامات الخلاص عندهم لأنهم كانوا يؤمنون بالعودة اليهودية إلى فلسطين وتأسيس الأمّة اليهودية ، وأخذَ هذا الأمر أبعاداً حتى فسِّرت فقرات من العهد القديم على أنَّ هذه العودة لا تنطبق على اليهود ، بل على الكنيسة المسيحية مجازاً كما هو رأي الكنيسة الكاثوليكية ، أو أنَّ هذه الدعوة وتنفيذ هذا المخطط وهو عودة اليهود إلى فلسطين هو إحدى علامات قرب العودة الثانية للمسيح [C] كما هو رأي كنيسة البروتستانت التي ينتمي إليها غالبية رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم الرئيس (جورج بوش) ، فعملوا جاهدين قديماً وحديثاً على تحقيق هذه العلامات لتعجيل ظهور المسيح [C] والتمهيد له ولو بالفساد وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والاستماتة على إبقاء ما تمَّ إنجازه والمحافظة عليه ، ولذا تجد التعاون قد حصل بين اليهود والنصارى على تحقيق هذا الأمر الغيبي الذي يؤمنون به وهو عودة اليهود إلى فلسطين من جانب ومقدمة لظهور السيد المسيح وتحقيق الخلاص من جانب آخر ، وقام العالم المسيحي الغربي في تبنِّي هذا الأمر وتحقيقه و المحافظة عليه والدفاع عنه . إضافة إلى أنَّ المجاعة والإنهيار الإقتصادي دفع بهم بقوَّة نحو أرض المسلمين العرب حيث قال البابا أوربانوس في واحد من خطاباته : (إنَّ فرنسا قد اكتظت بالبشر وأنَّ أرض كنعان تفيض حليباً وعسلاً) (1) والوعد والتبشير بالحليب والعسل في أرض كنعان وأنها هي أرض الميعاد إنَّما هو وارد في التوراة (العهد القديم) وبنصوص كثيرة متكررة ، ولذا فإنَّ البابا يعتمد في طروحاتهِ وخطاباتِهِ على الكثير من النصوص التوراتية الموجودة في الكتاب المقدَّس التي هي مقدَّسة عند النصارى ويعتبروها كلام الله جَلَّ وعلا ولذا فإنَّهُم يتفاعلون معها ويتحركون في آفاقِها الظلامية ، وهذا ما ستلحظه في الفصل السابع من بحثنا في نظرة خاطفة في دراسة التوراة والتلمود والإنجيل فراجع ، والمُهِم هنا إثبات ما يتعلق برجوع البابا إلى التوراة في معتقدهِ وسيرته وخطاباتهِ وملاحظة البصمات اليهودية في الحملات الصليبية وأهدافها حيث ينص التوراة بما يلي : سفر الخروج : إصحاح 13 : 3 إلى أرضٍ تَفيضُ لَبَناً وعَسَلاً .
سفر التثنية : إصحاح 11 : 9 وَلِتُطيلُوا الأيَّامَ عَلَى الأرضِ التي أقْسَمَ الرَّبُّ لآبَائكُمْ أنْ يُعطيهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ ، أرضٌ تَفيضُ لَبَناً وَعَسَلاً .
وقال البابا أوربانوس أيضاً يبرر لمن يموت بالسطو والاحتلال (بينما كان محو الخطايا مقدما لكل من يموت أثناء محاولة السيطرة) (2) ، وتحدث أيضاً حول مشاكل العنف لدى النبلاء وأنَّ الحل هو تحويل السيوف لخدمة (الرب) : (دعوا اللصوص يُصبحون فرساناً)(3) ، وكانت الاستجابة له كبيرة وبحماس شديد حتى أقنعوا أنفسهم بأنَّ هذه هي (إرادة الربّ) وقد قام البابا وعدد من رجال الدّين المتعصبين بتحريض الأمراء والملوك والإقطاعيين على هذا الغزو ، فقاموا بحملات عسكرية متكررة وبجيوشٍ كبيرة إلى البلاد العربية الإسلامية فعاثوا فيها الفساد وسفكوا فيها الدماء وأباحوها واحتلوا بيت المقدس في فلسطين في حملتهم الصليبية الأولى عام (1099 م) وقيام مملكة القدس اللاتينية ، ولم يستطع المسلمون آنذاك من طرد الصليبين لإنشغال حُكّامهم بالخلافات مما أدَّى إلى فشل محاولات طردهم ، بل لم يكتفوا بتأسيس مملكة القدس بل وسَّعوا سيطرتهم إلى سواحل بلاد الشام وأسّسوا حكومة استمرت إلى قرنين من الزمان في حملة صليبية ثانية ، ولكن بعد قرن من الزمان تقريباً أي في عام (1187م-583 هـ) تحديداً استطاع المسلمون العرب وبعد محاولات كثيرة من استعادة القدس للمسلمين في معركة حطّين (2/أكتوبر/1187م) ، وهو الأمر الذي دفع بالبابا غريغوريوس الثامن إلى الدعوة إلى حملة صليبية جديدة لإستعادة القدس من يد المسلمين العرب عام (1191م) ، وكان زعماء هذه الحملة الصليبية الثالثة ( فردريك بربروسا ملك ألمانيا ، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا ، وفيليب أوغسطس ملك فرنسا) . وبعد أن جرت مذابح بأمر الملك ريتشارد حينما حاصر (عكّا) ومحاولاته لإحتلال مدن أخرى وقد باءت بالفشل ، ولذا اضطر لعقد مصالحة مع المسلمين في أنَّه يحتفظ بشريط ساحلي يمتد من صور إلى يافا على أن يُسمَح للحجّاج المسيحيين الغربيين والتجّار بزيارة مدينة القدس والأماكن المقدَّسة ، وفي عام (1229م) استطاع الفرنجة الصليبيون من بسط سيطرتهم مرَّة أخرى على القدس بعد انتهاء العهد الأيوبي ، ولكن لم يكن هذا هو آخر مطاف الحروب الصليبية فكانت حملاتهم كثيرة ولكنَّ الرئيسية منها ثمانية ، وكان تأريخ الحملة الصليبية الثامنة عام (1270م) بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ، وهكذا تواصلوا في حروبهم الصليبية في غزو أطراف أخرى من البلاد العربية كما حصل في تونس ثمَّ إلى أسبانيا والبرتغال والأناضول وغيرها ،وتفاصيل هذه الحُروب الصليبية واسعة ومتشعبَة لا يسع المقام بيانها والتعرض لها في هذا الكتاب الذي هو ليس في معرض السَرد التأريخي وإنَّما لدراسة وتحليل مُجمَل المسيرة المُعادية للخط الإسلامي والاستعانة بذكر هذه الشواهد وأمثالها ، وقد أرَّخ العرب هذه الحروب في كثير من الكتب التاريخية كالكامل في التاريخ لأبن الأثير على سبيل المثال تحت عنوان حركة الفرنج في الجزء العاشر كما وأرَّخ الأوربيون تلك الحوادث والحروب بتسميات متعددة منها الحروب الصليبية أو المقدَّسة ... إلخ كما في كتاب قصة الحضارة للكاتب ول ديورانت وغيره .
هكذا سارت قيادة الكنيسة وبابا الفاتيكان في حروبهم الصليبية وممارساتهم الاستبدادية الظالمة والتي انكشفت للكثير من الناس زيف ودجل ممارسات الكنيسة الروحية والسياسية التي تمنح تارة صكوك الغفران للقتلة المجرمين وتارة تفتك بالناس وتمتص دماءهم حتى صارت تقتات على موائد الكذب والتحريف والغيبيات والأساطير الخرافية والأحكام الهزلية والأفكار الرجعية الظلامية التي ما أنزل الله بها من سلطان والأرباب المتعددة والنظام الإقطاعي الذي يرفع جماعة إلى رتبة الأمراء والملوك ويضع آخرين إلى مستوى الرقيق والعبيد ، فراحت الشعوب بما فيهم الفلاسفة والعلماء ورجال الإصلاح والمتضررين من العمّال والفلاّحين بعد نفاد صبرهم إلى التعبير عن إرادتهم فقاموا بمعارضة الكنيسة والأنظمة الرجعية السائرة في خطها من أجل التغيير والإصلاح وتحقيق المطالب الشعبية وبعث روح الأمل في الشعوب لتنوير منافذ الحياة الجديدة في بلادهم فكانت ردود أفعال الكنيسة والأنظمة الحاكمة هي إنشاء محاكم التفتيش لقمع كل العناصر الداعية للتغيير والتصحيح والإصلاح وإعدام وحرق كل من يُناهض معتقدات الكنيسة في شخص عيسى[u] ، هل هو نبي أو إله ؟! وفي عقيدة الثالوث ، وفي الصليب ، وفي صكوك الغفران ، وفي الغيبيات ، وما إلى ذلك من بعض ما نستعرضه في المبحث الثاني حول محاكم التفتيش .
1 - (ماهية الحروب الصليبية) ، الدكتور قاسم عبده قاسم /ص52-53 ، عن المصدر الأجنبي J.J.Sauders, Aspects of the Crusades, (University of Canterbury,1962), pp. 17-18; Runciman, A Hist. of the Crusades, vol. I, p.83. .
1 - ماهية الحروب الصليبية ص29/الدكتور قاسم عبده قاسم/ نقل هذا النص عن المصدر الأجنبي fulcher de chartrs,pp.61-63 .
2 - ماهية الحروب الصليبية ص55 /د. قاسم عبده قاسم / نقله عن المصدر الأجنبي : R.somerville, The councils of Urban II, Decreta Cleromontensia, Amesterdam 1972 , p.74
Riley-smith (eds.) The Crusades,p.37.Mayer,The Crusades, p.19. .
1 - ماهية الحروب الصليبية ص30 ،د . قاسم عبده قاسم . نقله عن المصدر الأجنبي mayer , the crusades p.37) ) .
1 - الموسوعة الحرَّة ويكيبيديا – الحملة الصليبية الأولى .
2 - المصدر السابق .
3 – المصدر السابق .
المصدر: كتاب جذور الاساءة للاسلام وللرسول الاعظم (ص) - لسماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي -دام ظله-
وفي إنجيل لوقا : إصحاح 12 :49 يقول السيد المسيح : (( جِئتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأرضِ ، فَمَاذا أُريدُ لَوْ أضْطَرَمَتْ ؟ . وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا ، وَكَيفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ ؟ 51 أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئتُ لأُعطِيَ سَلاَماً عَلَى الأرضِ ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ ! بَلِ أنقِسَاماً . 52 لأنَّه يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنقسمينَ : ثَلاثَةٌ عَلَى أثنين وَأثنَانِ عَلى ثَلاَثَةٍ . 53 يَنْقَسِمُ الأبُ عَلَى الابنِ والابْنُ عَلَى الأبِ ، وَالأُمّ ُعَلَى البِنتِ وَالبِنْتُ عَلَى الأُمِّ ، والحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِها)) .
وهذه النصوص موافقة تماماً لما موجود في كتاب العهد القديم (التوراة) ومتناغمة مع تشريعات كتاب التلمود اليهودي ، ومن هنا ندرك أنَّ الصليبيين الغربيين يعتمدون في تطبيقاتهم على هذه النصوص وأمثالها ويمنحوها شرعية وقداسة ، بينما تجدهم يعتمدون في دعواتهم التبشيرية على نصوص مناقضة لما ذكرنا كما في ( إنجيل متى 52:26) : (( ...لأنَّ كل الذين يأخذون السيفَ بالسيف يهلكون)) وكما ورد أيضاً على لسانه[C]في انجيل متى (5 : 39:38) ((سمعتم أنَّه قيل عينٌ بعين وسنٌّ بسن ، وأمَّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر ، بل من لطمَكَ على خدِّك الأيمن ، فحوِّل له الآخر أيضاً )) .
وفي إنجيل متى /رسائل بولس الرسول إلى أهل رومية إصحاح (17:12-21) حيث ورد على لسانهِ ((لا تجازوا أحداً عن شرٍّ بِشرٍّ ، معتنين بأمور حسنة قدَّام جميع الناس . .. لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحباء ، بل أعطوا مكاناً للغضب ... لا يغلبنك الشر ، بل اغلب الشر بالخير )) .
فكانت الدعوات المسيحية التبشيرية الغربية تستعين بهذه النصوص لجعلها أغطية يتسترون بها ويتظاهرون أمام العالم وكأنهم الحمل الوديع المسالم الداعي إلى المحبة والسلام بينما نجد الواقع الخارجي في تطبيقاتهم أنَّهم يرتكبوا الفساد ويسفكوا الدماء ويخربوا العالم بإسم الرب والصليب ، وجرت هذه الأمور بقيادة بابوية الكنيسة الكاثوليكية ، والأنظمة الرجعية المرتبطة بها ، وبرزت هذه الممارسات الإزدواجية بصورة واضحة للعيان بعد موت القديس (باسيل) عام 1025م وظهور الحروب الصليبية التي أعادت نشاط حروب الدولة الرومانية ضد الإسلام والمسلمين منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية وما بعدها ، فكان موت (باسيل) له الأثر البالغ في ظهور هذا التحول في سياسة الكنيسة إلى ما آلت إليه من تبني حروب عدوانية ضد الإنسانية تحت مسميات مختلفة منها الحروب الصليبية ومنها محاكم التفتيش وما يصحبهما من ترويج لمعتقدات وتشريعات مبتدعة من أجل أن تخدم المرحلة وهي مخالفة لبعض ما يؤمن به (باسيل) حيث أنَّ (( رأي القدِّيس (باسيل القبادوني) وهو أعظم مشرِّعي الكنيسة البيزنطية ، أنَّ الشهيد هو فقط من يموت متسلحاً بالإيمان وليس من يُقتل في الحرب ضدَّ الأعداء ، بل إنَّ (باسيل) يوصي الجندي الذي قتل عدوه في الحرب أن يكفِّر عن ذنبهِ بالإبتعاد ثلاث سنوات عن الجماعة المسيحية)) ([1]) .
وبموته قد ختمت مرحلة مسيحية وابتدأت مرحلة جديدة في أوربا لتُمَثِّل لهم نقطة تحول كبيرة وانعطافة نحو التوسع في تفسير وتأويل النصوص الدينية وخصوصاً في طرق التعامل مع أرباب الديانات الأخرى وتصنيفها وكذا مواجهة الطروحات والنظريات الحديثة والإجتهادات المخالفة لهم ، واعتمادهم نصوص الإخبارات الغيبية وتلاعبهم بعواطف وعقول الناس وفق رؤاهم المرحلية ومنها تفسير الظواهر الكونية الفلكية والطبيعية وتطبيقها على اقتراب نهاية العالم في الألفية الأولى لميلاد السيِّد المسيح [C] بأمل أن يظهر السيد المسيح من جديد إلى العالم ويُحقق لهم الخلاص كما تكرر حدوث هذا أيضاً في الألفية الثانية حيث ضجَّ الغرب لهذا الأمل في الظهور ، كما قاموا أيضاً بتسييس الخطاب الديني والعمل على تطبيق مضامينه الفاسدة وفق منظور المتعصبين المتطرفين وذوي الأطماع التوسعية الإستعمارية والتبشيرية والدعوة إلى تحرير كنيسة الرب في فلسطين التي ولد وعاش فيها السيِّد المسيح [C] ، وكذا أصبحت تُمنح صكوك الغفران المبتدعة للمقاتلين والسائرين على هذا الدرب للتكفير عن ذنوبهم وخطاياهم ، وكذا حث البابا والقساوسة المسيحيين الغربيين بقوَّة للذهاب إلى حج بيت المقدس وزيارة الكنيسة التي ولد فيها السيد المسيح [C]والمنطقة التي عاش فيها واقتفاء آثاره والتبرك بها حتى أستغلت هذه الزيارات الدينية وأصبحت ذات طابع سياسي وتسليحي فكانت مقدماتها شبيهة إلى حدٍ ما بتنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين ، فأعتاد الغربيون حينئذٍ على طابع مميزٍ وهو عسكرة الحج بحملهم السلاح الشخصي معهم إلى فلسطين ، وأخذت تراود البابوية الأفكار والتطلعات التوسعية والتبشيرية الكثيرة والمعتمدة على أسس ومباني مبتدعة ومنحرفة وفاسدة فكراً وممارسة وفي جوانب متعددة منها الديني والسياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي وساعدهم على تبني هذا المنهج مضافاً للنصوص الدينية هو ضعف الإقتصاد الأوربي ووجود نقص في المحاصيل الزراعية وتردي الشعب إلى الفقر المُدقع واستعباده من قبل رجال الكنيسة والأمراء والإقطاعيين حتى وصل الحال بهم إلى المجاعة مما إضطرهم إلى أكل الحيوانات والزواحف القذرة كما أكلوا لحوم البشر ، وبهذا سهل على القادة اقتيادهم وزجّهم في الحروب الصليبية وبذرائع شتَّى كالطائفية والإقتصادية والعنصرية ...إلخ ، وبهذه المسلكية الشيطانية جَنَّدوا الشعوب الأوربية ليناقضوا صراحةً تعاليمهم المسيحية التي يُبَشِّروا بها العالم والتي كانت على لسان السيِّد المسيح [C] كما يدَّعون ولسان الرسول بولس وآخرين غيرهم ، ونتيجة ذلك ظهرت الحملات الصليبية بتوجيه ورعاية الكنيسة الكاثوليكية بإسم الرب وأعتبروها (الحرب المُقدَّسة) ووصفوا الجندي الصليبي بأنَّه (جندي الرب) الذي يحمل شارة الصليب ، فدعت البابوية الفرسان الإقطاعيين والأمراء والمتنفذين في السلطة إلى المشاركة الفاعلة في الحملة الصليبية ، فنشأت هذه الحروب في سنة (1096م) واستمرت في مراحل وحملات إلى سنة 1291م ولكنَّها واقعاً لم تنتهي بعد هذا التأريخ الذي يذكره المؤرخون ، بل امتدت إلى قرونٍ أخرى تُحارب وتُبيد المسلمين العرب وغير العرب حتى وصلت إلى يومنا هذا تحت عناوين جديدة وأغطية متنوعة ، والمهم أنَّ المحارب الصليبي كان يضع شارة الصليب على ثيابه وسلاحه وقد استثيرت عواطفه الطائفية العصبية لتحقيق أهداف دينية وأيضاً لكي يُكفِّر عن خطاياه حيث يمنحه البابا صك الغفران إضافة إلى بحثه عن خيرات ينتعش من ورائها ولا ينسى في طريقه القيام بالدعوة التبشيرية إلى المسيحية ، فقامت أوربا بحركة استعمارية توسعية بإسم الدِّين لغزو البلاد العربية الإسلامية واستعمارها والسيطرة على الأراضي المقدسة ، ففي نوفمبر عام 1095م عقد بابا الفاتيكان أُوربانوس الثاني في مجمع كليرمونت مؤتمراً في وسط فرنسا وألقى فيه خطبة دعا فيها إلى انتزاع السيطرة على القدس من يد المسلمين بقولهِ : ( إنِّي أخاطب الحاضرين ، وأعلن لأولئك الغائبين ، فضلاً عن أنَّ المسيح يأمر بهذا ، أنَّه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك إذا ما انتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية سواء في مسيرتهم على الأرض ، أو أثناء عبورهم البحر ، أو في خضَم قتالهم ضدَّ الوثنيين ، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إيَّاها ...) (1) ، وكذا قول البابا أوربانوس : (إنَّ من يذهب إلى أورشليم ، بدافع من الإخلاص فقط ، وليس طلباً للشرف أو المال ، لتحرير كنيسة الرب ، يمكن أن يجعل هذه الرحلة بديلاً من أي عملٍ يُكفِّر به عن خطاياه)(2)، وكانت حملة التجنيد الصليبي واسعة ومنتشرة في عموم أوربا فنجد أنَّ (برنار)رئيس دير كليرفو يحثُّ أبناء الغرب الأوربي على الذهاب في الحملة الصليبية ، وكان ذلك بتفويض من البابا أجينيوس الثالث ، وقد ذكر (برنار) رئيس الدير في واحدة من خطبه الدعائية لهذه الحملة : (أيها الجندي الباسل ، يا رجل الحرب ، الآن لديك قضية تجعلك تقاتل دون أن يحيق الخطر بروحك ، قضية النصر فيها مجيد ، والموت في سبيلها مكسب . أم تراك رجل أعمال ناجح يدرك مكاسب هذه الدنيا بسرعة ؟ فإذا كنت كذلك فإنَّ بإستطاعتي أن أقدِّم لك صفقة محترمة ، فلا تجعل هذه الفرصة تفوتك . خذ شارة الصليب ، وفي الحال ستنال الغفران على كل خطاياك التي اعترفت بها بقلبٍ نادم . ولن يكلفك كثيراً أن تشتري مكافأة السماء إذا ارتديت شارة الصليب في تواضع) (1) .
وكما ذكرنا أنَّ العنصر الغيبي له الأثر البالغ في تحفيز الشعوب الأوربية نحو إرادتهم لتحقيق بعض الوعود التي هي من علامات الخلاص عندهم لأنهم كانوا يؤمنون بالعودة اليهودية إلى فلسطين وتأسيس الأمّة اليهودية ، وأخذَ هذا الأمر أبعاداً حتى فسِّرت فقرات من العهد القديم على أنَّ هذه العودة لا تنطبق على اليهود ، بل على الكنيسة المسيحية مجازاً كما هو رأي الكنيسة الكاثوليكية ، أو أنَّ هذه الدعوة وتنفيذ هذا المخطط وهو عودة اليهود إلى فلسطين هو إحدى علامات قرب العودة الثانية للمسيح [C] كما هو رأي كنيسة البروتستانت التي ينتمي إليها غالبية رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم الرئيس (جورج بوش) ، فعملوا جاهدين قديماً وحديثاً على تحقيق هذه العلامات لتعجيل ظهور المسيح [C] والتمهيد له ولو بالفساد وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والاستماتة على إبقاء ما تمَّ إنجازه والمحافظة عليه ، ولذا تجد التعاون قد حصل بين اليهود والنصارى على تحقيق هذا الأمر الغيبي الذي يؤمنون به وهو عودة اليهود إلى فلسطين من جانب ومقدمة لظهور السيد المسيح وتحقيق الخلاص من جانب آخر ، وقام العالم المسيحي الغربي في تبنِّي هذا الأمر وتحقيقه و المحافظة عليه والدفاع عنه . إضافة إلى أنَّ المجاعة والإنهيار الإقتصادي دفع بهم بقوَّة نحو أرض المسلمين العرب حيث قال البابا أوربانوس في واحد من خطاباته : (إنَّ فرنسا قد اكتظت بالبشر وأنَّ أرض كنعان تفيض حليباً وعسلاً) (1) والوعد والتبشير بالحليب والعسل في أرض كنعان وأنها هي أرض الميعاد إنَّما هو وارد في التوراة (العهد القديم) وبنصوص كثيرة متكررة ، ولذا فإنَّ البابا يعتمد في طروحاتهِ وخطاباتِهِ على الكثير من النصوص التوراتية الموجودة في الكتاب المقدَّس التي هي مقدَّسة عند النصارى ويعتبروها كلام الله جَلَّ وعلا ولذا فإنَّهُم يتفاعلون معها ويتحركون في آفاقِها الظلامية ، وهذا ما ستلحظه في الفصل السابع من بحثنا في نظرة خاطفة في دراسة التوراة والتلمود والإنجيل فراجع ، والمُهِم هنا إثبات ما يتعلق برجوع البابا إلى التوراة في معتقدهِ وسيرته وخطاباتهِ وملاحظة البصمات اليهودية في الحملات الصليبية وأهدافها حيث ينص التوراة بما يلي : سفر الخروج : إصحاح 13 : 3 إلى أرضٍ تَفيضُ لَبَناً وعَسَلاً .
سفر التثنية : إصحاح 11 : 9 وَلِتُطيلُوا الأيَّامَ عَلَى الأرضِ التي أقْسَمَ الرَّبُّ لآبَائكُمْ أنْ يُعطيهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ ، أرضٌ تَفيضُ لَبَناً وَعَسَلاً .
وقال البابا أوربانوس أيضاً يبرر لمن يموت بالسطو والاحتلال (بينما كان محو الخطايا مقدما لكل من يموت أثناء محاولة السيطرة) (2) ، وتحدث أيضاً حول مشاكل العنف لدى النبلاء وأنَّ الحل هو تحويل السيوف لخدمة (الرب) : (دعوا اللصوص يُصبحون فرساناً)(3) ، وكانت الاستجابة له كبيرة وبحماس شديد حتى أقنعوا أنفسهم بأنَّ هذه هي (إرادة الربّ) وقد قام البابا وعدد من رجال الدّين المتعصبين بتحريض الأمراء والملوك والإقطاعيين على هذا الغزو ، فقاموا بحملات عسكرية متكررة وبجيوشٍ كبيرة إلى البلاد العربية الإسلامية فعاثوا فيها الفساد وسفكوا فيها الدماء وأباحوها واحتلوا بيت المقدس في فلسطين في حملتهم الصليبية الأولى عام (1099 م) وقيام مملكة القدس اللاتينية ، ولم يستطع المسلمون آنذاك من طرد الصليبين لإنشغال حُكّامهم بالخلافات مما أدَّى إلى فشل محاولات طردهم ، بل لم يكتفوا بتأسيس مملكة القدس بل وسَّعوا سيطرتهم إلى سواحل بلاد الشام وأسّسوا حكومة استمرت إلى قرنين من الزمان في حملة صليبية ثانية ، ولكن بعد قرن من الزمان تقريباً أي في عام (1187م-583 هـ) تحديداً استطاع المسلمون العرب وبعد محاولات كثيرة من استعادة القدس للمسلمين في معركة حطّين (2/أكتوبر/1187م) ، وهو الأمر الذي دفع بالبابا غريغوريوس الثامن إلى الدعوة إلى حملة صليبية جديدة لإستعادة القدس من يد المسلمين العرب عام (1191م) ، وكان زعماء هذه الحملة الصليبية الثالثة ( فردريك بربروسا ملك ألمانيا ، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا ، وفيليب أوغسطس ملك فرنسا) . وبعد أن جرت مذابح بأمر الملك ريتشارد حينما حاصر (عكّا) ومحاولاته لإحتلال مدن أخرى وقد باءت بالفشل ، ولذا اضطر لعقد مصالحة مع المسلمين في أنَّه يحتفظ بشريط ساحلي يمتد من صور إلى يافا على أن يُسمَح للحجّاج المسيحيين الغربيين والتجّار بزيارة مدينة القدس والأماكن المقدَّسة ، وفي عام (1229م) استطاع الفرنجة الصليبيون من بسط سيطرتهم مرَّة أخرى على القدس بعد انتهاء العهد الأيوبي ، ولكن لم يكن هذا هو آخر مطاف الحروب الصليبية فكانت حملاتهم كثيرة ولكنَّ الرئيسية منها ثمانية ، وكان تأريخ الحملة الصليبية الثامنة عام (1270م) بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ، وهكذا تواصلوا في حروبهم الصليبية في غزو أطراف أخرى من البلاد العربية كما حصل في تونس ثمَّ إلى أسبانيا والبرتغال والأناضول وغيرها ،وتفاصيل هذه الحُروب الصليبية واسعة ومتشعبَة لا يسع المقام بيانها والتعرض لها في هذا الكتاب الذي هو ليس في معرض السَرد التأريخي وإنَّما لدراسة وتحليل مُجمَل المسيرة المُعادية للخط الإسلامي والاستعانة بذكر هذه الشواهد وأمثالها ، وقد أرَّخ العرب هذه الحروب في كثير من الكتب التاريخية كالكامل في التاريخ لأبن الأثير على سبيل المثال تحت عنوان حركة الفرنج في الجزء العاشر كما وأرَّخ الأوربيون تلك الحوادث والحروب بتسميات متعددة منها الحروب الصليبية أو المقدَّسة ... إلخ كما في كتاب قصة الحضارة للكاتب ول ديورانت وغيره .
هكذا سارت قيادة الكنيسة وبابا الفاتيكان في حروبهم الصليبية وممارساتهم الاستبدادية الظالمة والتي انكشفت للكثير من الناس زيف ودجل ممارسات الكنيسة الروحية والسياسية التي تمنح تارة صكوك الغفران للقتلة المجرمين وتارة تفتك بالناس وتمتص دماءهم حتى صارت تقتات على موائد الكذب والتحريف والغيبيات والأساطير الخرافية والأحكام الهزلية والأفكار الرجعية الظلامية التي ما أنزل الله بها من سلطان والأرباب المتعددة والنظام الإقطاعي الذي يرفع جماعة إلى رتبة الأمراء والملوك ويضع آخرين إلى مستوى الرقيق والعبيد ، فراحت الشعوب بما فيهم الفلاسفة والعلماء ورجال الإصلاح والمتضررين من العمّال والفلاّحين بعد نفاد صبرهم إلى التعبير عن إرادتهم فقاموا بمعارضة الكنيسة والأنظمة الرجعية السائرة في خطها من أجل التغيير والإصلاح وتحقيق المطالب الشعبية وبعث روح الأمل في الشعوب لتنوير منافذ الحياة الجديدة في بلادهم فكانت ردود أفعال الكنيسة والأنظمة الحاكمة هي إنشاء محاكم التفتيش لقمع كل العناصر الداعية للتغيير والتصحيح والإصلاح وإعدام وحرق كل من يُناهض معتقدات الكنيسة في شخص عيسى[u] ، هل هو نبي أو إله ؟! وفي عقيدة الثالوث ، وفي الصليب ، وفي صكوك الغفران ، وفي الغيبيات ، وما إلى ذلك من بعض ما نستعرضه في المبحث الثاني حول محاكم التفتيش .
1 - (ماهية الحروب الصليبية) ، الدكتور قاسم عبده قاسم /ص52-53 ، عن المصدر الأجنبي J.J.Sauders, Aspects of the Crusades, (University of Canterbury,1962), pp. 17-18; Runciman, A Hist. of the Crusades, vol. I, p.83. .
1 - ماهية الحروب الصليبية ص29/الدكتور قاسم عبده قاسم/ نقل هذا النص عن المصدر الأجنبي fulcher de chartrs,pp.61-63 .
2 - ماهية الحروب الصليبية ص55 /د. قاسم عبده قاسم / نقله عن المصدر الأجنبي : R.somerville, The councils of Urban II, Decreta Cleromontensia, Amesterdam 1972 , p.74
Riley-smith (eds.) The Crusades,p.37.Mayer,The Crusades, p.19. .
1 - ماهية الحروب الصليبية ص30 ،د . قاسم عبده قاسم . نقله عن المصدر الأجنبي mayer , the crusades p.37) ) .
1 - الموسوعة الحرَّة ويكيبيديا – الحملة الصليبية الأولى .
2 - المصدر السابق .
3 – المصدر السابق .
المصدر: كتاب جذور الاساءة للاسلام وللرسول الاعظم (ص) - لسماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي -دام ظله-
اضف تعليقك هنا .. شاركنا برأيك .. اي استفسار او اضافة للموضوع ضعه هنا
اذا احببت اختر التعليق باسم : ( الاسم / عنوان url ) اكتب الاسم فقط واترك الخيار الثاني فارغ
ثم اضغط على استمرار واكتب تعليقتك