حينما نتكلم عن أصناف الناس من جهة العلم والجهل فذلك يعني تصنيفهم
إلى علماء وطبقة واعية مثقفة وإلى جُهّال، وقد قال كميل بن زياد (S) (1):[أخذ بيدي أمير المؤمنين (B) ذات يوم من المسجد حتى
أخرجني منه، فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال : [يا كميل، إن هذه القلوب أوعية،
فخيرها أوعاها، أحفظ عني ما أقول: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة،
وهمج رعاع أتباع كل
ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا
إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العِلْم يحرسك، وأنت تحرس المال،
والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق. يا كميل، صحبة العالم دين يدان به،
وبه تكملة الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، والعلم حاكم والمال محكوم
عليه. يا كميل، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم
مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة].
وبهذا الوصف البديع في مدح العلماء والتصنيف الحكيم للناس وبيان فضل
العلم والحكمة تتضح المعالم الرئيسية لمعرفة الموقف من العلماء والجُهّال من دون
التفصيل في ذلك ، ومع هذا فإنَّه ينبغي وجود معادلة عادلة للجمع بين أصناف المجتمع
ولا يكون ذلك إلا إذا وُجِدَ الوعي والإيمان بحيث يتعاون الجميع على إيجاد منظومة
منسجمة في ألوانها ومتماسكة في خيوطها تكون لهم كساءً يتقون به من الآفات
والضلالات والمظالم وبالتالي يُعطي كُلّ صنفٍ منهم انطباعاً لائقاً بمجتمعه ،
وحينئذٍ يحصل التفاعل والانسجام بحيث يهتم الناس بالعلماء ويستفيدوا من علومهم
ومعارفهم ومشورتهم كما على العُلماء أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويُظهروا
علمهم ويُفقهوا الناس في الدِّين ويحكموا بينهم بالعدل ويردّوا البدع والأباطيل
وتأويل الجاهلين فتظهر في المجتمع الطبقة الواعية المثقفة التي تكون سنداً وذراعاً
للعلماء من أجل توسيع دائرة الوعي والمعرفة بين صفوف الناس ، وحينما تَتم
الاستجابة للوظيفة العملية الشرعية بشكل جماعي تحدث حينئذٍ الموازنة في العمل
وينشأ المجتمع الفاضل الذي يخضع لمنطق الحق والعدل والحُبِّ والسلام ، ومن لا يخضع
لهذا المنطق وهذه المنظومة فإنَّه سوف يخضع لمنطق ومنظومة قد استحكم عليها الجهل
والطمع والحسد ومخاصمة العلماء الرساليين الربّانيين ومواجهتهم لتعميم ثقافة ضالة
لا تستند إلى مبادئ واقعية وقيم أصيلة وأخلاق حميدة لينشأ بعد ذلك المجتمع الفاسق
والمفكك والضعيف الذي يؤمن بالقوة والمصالح الخاصة وهوى النفس الأمّارة بالسوء
ويخضع لها ، ولذا ففي مقام العمل على الساحة لو خُيِّر الإنسان العاقل الواعي
المؤمن بين الركون إلى العلماء الصادقين أو الركون إلى الجُهّال الضالّين فإنَّه
حتماً سيختار العلماء ، وحينما نتكلم عن العلماء فينبغي أن لا نتجاوز ما ورد في
فضلهم مما قاله الخالق العظيم و رسوله الكريم و الأئمة المعصومين و حكماء البشر.
أمَّا في الكتاب منها :
قوله تعالى:(2)[يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ].
وأمَّا في السُنَّة منها :
وقد روي أنَّه(3) : [جاء رجل من الأنصار إلى النبي (6) فقال : يا رسول الله إذا
حَضَرَت جنازة ومجلس عَالِم أيُّهما أحبُّ إليك أن أشهد ؟ فقال رسول الله (6) : إن كان للجنازة مَنْ
يتبعها ويدفنها فإنَّ حضور مجلس عالِم أفضل من حضور ألف جنازة ، ومن عيادة ألف
مريض ، ومن قيام ألف ليلة ، ومن صيام ألف يوم ، ومن ألف درهم يتصدق بها على
المساكين ، ومن ألف حجة سوى الفريضة ، ومن ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل
الله بمالك ونفسك وأين تقع هذه المشاهد من مشهد عَالِم ؟ أما سمعت أنَّ الله يُطاع
بالعلم ويُعبَد بالعِلم ؟ وخير الدنيا والآخرة مع العلم ، وشرُّ الدنيا والآخرة مع
الجهل ؟ ].
وأمَّا ما ورد عن الأئمة المعصومين (F) منها :
روي عن علي بن أبي طالب (B) أنَّه قال(4) : [جلوس
ساعة عند العلماء أحب إلى الله من عبادة ألف سنة ، والنظر إلى العالم أحب إلى الله
من اعتكاف سنة في البيت الحرام ، وزيارة العلماء أحب إلى الله تعالى من سبعين
طوافاً حول البيت وأفضل من سبعين حجة وعمرة مبرورة مقبولة ، ورفع الله له سبعين
درجة ، وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنَّ الجنة وجبت له ] .
وعن أمير المؤمنين(B) أنَّه قال(1) :[إنَّ
مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه].
وعن أبي عبد الله (B) انه قال :(2)[إذا كان
يوم القيامة جمع الله عزَّ وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين فتوزن دماء
الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء] .
وعن أمير المؤمنين (B) أنَّه قال لكميل: (3)[هلك
خزان الأموال وهُم أحياء والعلماء باقون ما بقى الليل والنهار أعيانهم مفقودة
وأمثالهم في القلوب موجودة] .
وعن أمير المؤمنين (B)(5): [عجبت لمن يرغب في التكثر من
الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألباء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم، وتهديه
علومهم ، وتزينه صحبتهم] .
وأما ما ورد على لسان حكماء البشر منها :
وصية لقمان (B) لابنه(1):[جالس
العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنَّ الله يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيى الأرض بوابل
السماء ..].
وأيضاً وصية لقمان (B) لابنه(2): [يا
بُني : أختر المجالس على عينك ، فإن رأيت قوماً يذكرون الله جلّ وعزّ فاجلس
معهم ، فإن تكُن عالماً نفعك علمك ، وإن تكُن جاهلاً علَّموك ، ولعلَّ الله أن
يظلّهم برحمة فيعمّك معهم ، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم ، فإن
تكُن عالماً لم ينفعك علمك ، وإن كنت جاهلاً يزيدوك جهلاً ، ولعلّ الله أن يظلَّهم
بعقوبة فيعمّك معهم..].
والنصوص كثيرة في هذا المقام ، ولكن ينبغي التأكيد عليه وهو أنَّ
العاقل لابد له أن يتخذ موقفاً عملياً شرعياً وعقلياً لا يخرج فيه عن دائرة العلم
والعلماء ولا يكون في مواجهتهم إلى جنب الأعداء وسائر الجُهّال ، ولذا عليه أن
يتعامل ويتعاون ويتجاور ويتحاور مع العناوين المتصلة بالله تعالى والموجودة مع
الناس بأجسامهم والباقية معهم في علومهم وتجاربهم ومواعظهم وذكراهم الجميل بعد
وفاتهم وهم العلماء الرساليون والمراجع الربّانيون فيأنس بهم وبسيرتهم الرسالية ويتواضع
لهم ويستفيد منهم ومن آثارهم في حياتهم وبعد وفاتهم حيث النور المتواصل الذي
يستضيء به الناس دائماً ولذا كان مدادهم أفضل من دماء الشهداء كما وقد جعلهم الله
تعالى ورثة الأنبياء وقادة البشر ، وليس للإنسان أن يلجأ إلى العناوين الجاهلة
المفقودة الذين يُعطلون عمل العلماء ويؤخرون مسيرتهم بل ويسعون للتنكيل والتجريح
بهم ومحاربتهم حتى سجَّل لنا التأريخ وإلى يومنا الحاضر مآسي العلماء ووقوعهم تحت
أيدي الطُغاة والمرتزقة والجُهّال ، وبدلاً من إكرام العلماء وتعظيم شأنهم وتوفير
احتياجاتهم فإنَّهم يقومون بتعريضهم للحصار والتضييق والمِنَّة البغيضة والتكذيب
والتهجير والمطاردة والحبس والتعذيب والإعدام بأبشع صورها كما يقومون ببهتانهم
وخيانتهم وما إلى ذلك من الكبائر والقبائح ، ولكن هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ ،
وهل هناك إحسان على البشرية جمعاء أعظم من إحسان الأنبياء والأوصياء والعلماء ؟،
وهل يصح مقارنة الأمور المادية في غير مورد الضرورة بالعلم والعلماء ؟ ، والعلماء
سبب لهداية الناس وتنوير طريقهم وبهذا قال رسول الله (6) لأمير المؤمنين(B): (1)[فوالله لئن يهدي الله بك رجلا
واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم].
إذن فضل العلماء على جميع
الناس ثابت ولا يُقاس بفضلهم فضل ، حيث يكتسب الناس منهم العلم والمعرفة والهداية
والوجاهة وسلامة الفكر والموقف في عالم الدنيا والإعداد الصحيح ليوم الآخرة ، وقد
روي عن أمير المؤمنين (B) أنه قال (2):
ما الفضـــل إلا لأهل العلم أنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء
ووزن كل امرئ ما كان يحســـنه
والجاهلـون لأهـل العلم أعداء
ففز بعلم تعيـــش حيا ًبه أبــــــدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
" المصدر : كتاب سلوك الطريق لمعرفة الصديق "
لسماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي -دام ظله-
لسماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي -دام ظله-
اضف تعليقك هنا .. شاركنا برأيك .. اي استفسار او اضافة للموضوع ضعه هنا
اذا احببت اختر التعليق باسم : ( الاسم / عنوان url ) اكتب الاسم فقط واترك الخيار الثاني فارغ
ثم اضغط على استمرار واكتب تعليقتك