يترتب على مؤاخاة أهل السوء آثاراً شرعية ووضعية حيث لا منجى معهم من الوقوع في المعصية والمفسدة كما أنَّها تؤثر على طباع الإنسان وأفكاره وتصرفاته ، ولذا حذَّر أهل البيت (F) في روايات عديدة من مؤاخاة أهل السوء وقد أرشدوا الناس في بناء علاقاتهم إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة ، وقد اخترنا نصوصاً صريحة في المقام وذات فائدة عظيمة نذكرها ومن ثَمَّ نُعلِّق على الموضوع فيها بقدر ما يُناسب البحث .
فروي عن أبى عبد الله (B) أنَّه قال: كان أمير المؤمنين (B) إذا صعد المنبر قال: (1)[ينبغي للمسلم أن يتجنب مؤاخاة ثلاثة : الماجن الفاجر، والأحمق، والكذاب، فأما الماجن الفاجر فيزين لك فعله ويحب أن تكون مثله، ولا يعينك على أمر دينك ومعادك، مقاربته جفاء وقسوة ، ومدخله ومخرجه عار عليك، وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير، ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه، وربما أراد منفعتك فضرك، فموته خير من حياته، وسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وأما الكذاب فإنه لا يهنئك معه عيش ينقل حديثك، وينقل إليك الحديث، كلما أفنى أحدوثة مَطَّها بأخرى مثلها حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق ويفرق بين الناس بالعداوة فينبت السخائم في الصدور، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم].
وعن أبي عبد الله، عن أبيه (B) قال(2): [قال لي علي بن الحسين (B):
يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق فقلت: يا أبه من هم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب ، وإياك ومصاحبة الفاسق الماجن من لا يبالى قولا وفعلا. فإنه بائعك بأكلة أو أقل من ذلك ، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه ، وإياك ومصاحبة الأحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك ، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاث مواضع: قال الله عز وجل:[ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم]، وقال:[الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار] ، وقال في البقرة :[ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون] .
وعن أبي عبد الله (B)قال(1) : [احذر من الناس ثلاثة: الخائن. والظلوم. والنمَّام، لأن مَنْ خانَ لك خانَكَ ومن ظلم لك سيظلمك. ومن نمَّ إليك سينمُّ عليك ].
وعن سفيان الثوري، عن الصادق جعفر بن محمد صلوات الله عليه قال(2): [يا سفيان أمرني والدي (B) بثلاث ونهاني عن ثلاث فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم ، ومن يدخل مداخل السوء يُتَهم، ومن لا يملك لسانه يَندم ، ثم أنشدني:
وروي عن الإمام الجواد (B):(1) [إياك ومصاحبة الشرير فانه كالسيف المسلول يحسن منظره، ويقبح أثره].
وقال الشاعر :
وروي عن أمير المؤمنين (D)(2) : [وإياك ومصاحبة الفساق فإن الشر بالشر ملحق] .
وعن داود الرقي قال: قال لي أبو عبد الله (B)(3):[انظر إلى كل من لا يفيدك منفعة في دينك فلا تعتدن به، ولا ترغبن في صحبته، فان كل ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحل وخيم عاقبته] .
وعن أمير المؤمنين (B)(4): [قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم].
ومن هنا ينبغي أن يحترز الإنسان في علاقاته من عناصر تتصف بصفات سيئة كالحمق والفجور والكذب والخيانة والنَميمة وأمثالها لأنَّ في صُحبتهم الضرر والندامَة حيث أنَّهم لا يُراعوا حقوق الله تعالى وحقوق الآخرين وبالتالي فلا يكن أحد بمأمن من ضياع حقوقه وتضرره بسبب صُحبته لهم وتعامله معهم ، وكلَّما كانت قضايا الأفراد والجماعات بينهم مهمة كانت المخاطر عليهم أعظم ولذا كان لابد أن يكون نظام العلاقات والسفارة بين الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والدول قائماً على أسُسٍ موضوعية عادلة وحكيمة فلا يُعقل أن يكون الوسيط والسفير ومَن يُمثل حلقة الوصل في نظام العلاقات أحمقاً أو نَمّاماً أو يُحبُّ الفتنة ويسعى لها أو ممن يرتشي أو يبتزّ أخوانه في معاملاته أو يُحتمل في حقِّه عدَّة ولاءات مختلفة أو يُعرف عنه أنَّه يزيد وينقص في الحديث أو يتلاعب بالألفاظ وفق مراميه أو يكذب أو يكون عميلاً مزدوجاً أو لا يؤدي الرسالة أصلاً بل ينقل رسالة مغايرة عن الواقع المطلوب ، وبتمكين وتسليط أرباب هذه المواصفات السيئة على دور رسالي خطير فإنَّه يؤدي إلى إحداث الفتن وتأزيم المواقف والمشاكل والنزاعات وضياع الحقوق والأنفس وتعطيل المجتمعات والأمم عن تنمية قدراتها نحو التقدم والازدهار ، وحينئذٍ لابد من اتخاذ المحاذير الشديدة وإبعاد وعزل هذه العناصر الفاسدة عن أخذ أي دور مهم في حياة الناس رعاية للسلامة والأمان والاستقرار والحفاظ على الحقوق والأنفس والأعراض.
وكان من جملة ما يتأثر به الناس في علاقاتهم هو اعتمادهم على الإعلام الكاذب والإشاعات المُغرضة والنزاعات الحزبية والمصالح السياسية حتى شاعت بينهم ثقافة التجريح والتسقيط وكتابة التقارير الكيدية المبنية على الكذب والخيانة والنميمة .... والتفنن في صياغتها وقد أصبحت هذه الأمور ظاهرة شائعة ولها سوق رائج وروّاد كُثُر لشيوع الأحزاب وأوكارهم التي تستفيد من هذه الأفعال القبيحة لارتباط مصالحهم السلطوية والمادية بتفريق المجتمعات والشعوب وبتجريح وتسقيط من يكون عقبة في طريقها ولو كانت العقبة فيها النصيحة لهم أو فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب الحذر من هؤلاء الذين يحرقون الأخضر واليابس من أجل أطماعهم الدنيوية التي لا تمتلئ منها جيوبهم وبطونهم وقصورهم ومصارفهم .... كما لا تنتهي أنفسهم عن متابعة الهوى لوجود الغشاوة على قلوبهم وعقولهم وفقدان الوازع الديني ، واعلم أنَّ هذه الجماعات إذا دخلوا قرية أفسدوا فيها وجعلوا أعزّة أهلها أذلة وعاليها سافلها وفرّقوا أهلها شيعاً متناحرين ، وفي أجواء هذه الجماعات والابتلاء بها تنكشف الصداقات من غيرها وقد قال تعالى : (1)[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ].
وهنا لابد من اليقظة إلى أنَّه ليس من البساطة بمكان وقوع الأمور السيئة التي ذكرناها بين الأصدقاء الصدوقين المُتقين إلا إذا انكشف كون هذه الصداقات وهمية وليست حقيقية فتكشفها الأيام ونوائب الدهر والابتلاء فتعلم حينئذ واقعهم ويكون مصداقاً لما رواه معمر بن خلاد حيث قال : سمعت أبا الحسن (B) يقول: كان أبو جعفر (B) يقول: (2)[لا يخنك الأمين ولكن ائتمنت الخائن].
وبمجرد الاحتكاك البسيط وحصول ما يُكدِّر الصفو في العلاقات فإنَّه يستعجل العجول صاحب العلاقة المُزيَّفة ليُكَشِّر عن أنيابه وتظهر الوجوه على حقيقتها وتنكشف فوضويته وجبنه وبُعْده عن الانضباط والالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاق كما في قوله تعالى:(3)[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا].
وهؤلاء هُم ممن يبحثون عن الدنيا للدنيا في رؤية مادية ومصالح شخصية ضيِّقة ويجعلوها موضع بقائهم واهتمامهم وعافيتهم ، وقد وصفهم سيِّد الشهداء الإمام الحسين (B) بقوله:(4)[إن الناس عَبيدُ الدنيا والدِّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما دَرَّت معايشهم فإذا مُحِصُوا بالبَلاء قَلَّ الدَيَّانون].
ولذا تجد هؤلاء العبيد للدنيا الذين يجبنون في مواقف الحق والصدق والعدل والذين يهربون من مقاومة الباطل تحت ذرائع واهية ومكذوبة ، وهذا التصرف المتخاذل يدفعهم إلى إبراز وجوههم القبيحة المنافقة عند وضعهم تحت المساءلة والحساب فيُظهرون التحدي والعمل بالمواجهة العدوانية التي تعتمد الكذب والنميمة والخيانة والتهديد بكشف الأسرار وممارسة الابتزاز المادي أو المعنوي من أجل فرض السياسات الشيطانية والمصالح الخاصة وهذا على فرض وجود أسرار حقيقة لها أثر مهم في حياة الناس وإلاّ فكثير من هؤلاء المُفلسين والخاسرين تجدهم يتحدثون عن أسرار مُخترعة هي من نسج الخيال ووسوسة الشيطان تتلاءم مع تطلعاتهم الشخصية وأهدافهم المريضة فيكذبون للإضرار بالآخرين وتفريق الناس والعمل بالنميمة وسائر الوسائل الشيطانية لإنجاح مآربهم وإلا لو كانت صحيحة فلماذا رضوا بها وسكتوا عنها طوال سنوات بقائهم مع أصحابهم وكانوا شركاء في تلك الأحاديث السرِّية والتي ربما هُم أصلها وفرعها فيكون من الأجدر أن يُحاسَبُوا عليها قبل غيرهم ؟!!! أو أنَّهم يتحدثون عن أسرار مكذوبة من أجل التقرب إلى أسيادهم زلفى والظهور أمامهم بأنهم نشطاء أذكياء في جلب المعلومات السرِّية فيرضى عنهم الأسياد وينالوا منهم ما يبتغون ، وقد وصل الحال بمستوى كثير من المخابرات العالمية من إنتاج معلومات كاذبة عن بعض الدول أو الجماعات أو الأشخاص بعنوان أنها أسرار خطيرة وتبَيَّن أنَّ الجاسوس وكاتب التقرير كان يكذب عليهم من أجل مصالح خاصَّة وطبيعة نفسية شرِّيرة ، وهكذا الحال في ممارستهم الطعون وتلفيق التُهم والأباطيل الشيطانية واللجوء إلى الأعداء علانية بعدما كان الاتصال بهم سرّاً والمجاهدة على عمل التكتلات والتحالفات لإعلان جبهة للحرب والعدوان ، ولو اطلَعتَ عليهم سابقاً لَوَلَّيت منهم فرارا ، وقد قال الإمام علي (B):(1)[غاية الخيانة خيانة الخِل الودود ونقض العهود].
وفي خِضَم هذه الأجواء لو ثبت من الصديق أنَّه ارتكب فعلاً قبيحاً اتجاه أصدقائه ولأول مرَّة فيُمكن أن يتم التعامل معه بما يُناسبه من الحكمة والموعظة الحسنة والقضاء العادل الذي يرضى فيه من صديقه بالتوبة النصوح والاعتذار والتعهد والقسم بعدم العودة إلى فعله وإلى ما يشابهه ومعالجة مواقفه بما يأمر به الشرع الشريف ، هذا مع تَحَمّل الموقف بطبيعته ونوعه هذا الأسلوب من التعامل ، ولكن لو انكشف حاله من تكرار هذه الأعمال القبيحة وبمختلف الحالات والأوضاع والجهات حيث يتصل بمختلف الأعداء المحاربين سرّاً أو علانية فالأمر حينئذٍ يختلف وقد قال تعالى : (2)[فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ] ، وقال تعالى : (3)[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ].
وربما يتصور ساذج ممن لا يفرز بين الصديق والأخ الكاشر والعدو أنَّه يستطيع استيعاب جميع الناس بصداقاتٍ برغم ما يحملون من حق وباطل وحلال وحرام وصدق وكذب وعدل وظلم وخير وشر وحسَن وقبيح في مواقف بعضهم للبعض الآخر فيتعامل معهم بالسوية فلا يُغضب أحداً منهم ويُوالي الجميع ويحترم الجميع ويتعامل مع الجميع لأنَّه لا يهتم للمظلوم ولا ينتصر له ولا يُبالي للحق والعدل ما دامت مصالحه مع الجميع محفوظة فيلغي دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة في حياته ويَدَّعي كذباً وزورا أنَّه يُحبُّ الجميع مما يجعله لا يتخذ موقفاً شرعياً عادلاً خوفاً على مصالحه فيقول في نفسه أو لغيره : الأمر لا يعنيني ، ولا يهمني ، ولستُ طرفاً فيه ، ولا يملئ جيبي ، وما عسايَ أن أفعل لو اتصل بي العدو ، وأكون متفرجاً خير لي من أن أكون مُصْلِحاً فيجرني إلى موقف قد أصْطَف فيه مع طرف دون طرف آخر فأخسر بذلك صداقتي مع ذلك الطرف ، وتصرفه هذا يكشف بوضوح أنَّه ليس صديقاً لأحدٍ منهم ولا يرجو لهم الخير و لا يتعامل بالأخوة الإيمانية لأنه ليس بمؤمن ، وفاقد الشيء لا يُعطيه بل هو يؤمن بالمصالح والتي هي مرحلة وقتية يُمرِّرها لتحقيق أهدافه وبالتالي فهو خارج عن المسلكية الشرعية ولا يُحبُّ أحداً منهم في الواقع وإنما يُحبُّ نفسه ومصالحه فقط وهذا من النفاق لأنَّه يُخالف صريحاً الأوامر الإلهية وسيرة الأنبياء والأوصياء والأصدقاء الصدوقين في مواقفهم الرسالية التي يكون فيها المنافقون والانتهازيون النفعيون والمرتزقة والعُصاة المردة والطُغاة المستكبرين وبطانتهم أعداءاً لدعاة الحق والعدل ، ومن جملة أسباب العداء للدعاة الرساليين والمؤمنين الصادقين لأنهم يُُفرزون ويُمَيِّزون في مواقفهم ومسيرتهم بين الحق والباطل والعدو والصديق والمؤمن والمنافق و... وبالتالي فإنَّ وجود الأعداء في حياة الأنبياء والأوصياء والدعاة لم يكُن من صُنع أولياء الله ودعاة الحق وقصدهم (حاشاهم) بل من صُنع أعداء الله تعالى الذين لا يخضعون للحق والعدل بل يبغضونه ويُحاربونه ولأنهم لا يُريدون الهداية والاستقامة والصلاح إلا بالقدر الذي يَصبّ في مصلحتهم وأهدافهم ولذلك فهُم يُعادون الدعاة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُحدِّثون بالنصيحة ويسعون نحو الإصلاح فيتخذون إزاءهم المواقف العدائية فتحدث الخصومة والبغضاء ، ويكون هذا المراوغ المنافق ذو الطباع السيئة الذي يدَّعي الحُب للجميع والوقوف مع الجميع والتعامل مع الجميع قد باع دينه وأخلاقه وعلاقاته التي يزعم أنَّه صديق فيها بـأبخس الأثمان الزائلة ، فتجده يقوم بتزييف الحقائق والاستخفاف بها واستصغار الكبائر كالكذب والخيانة والنميمة والتعدي على حقوق الصداقة والتحلل منها وتهوينها ويتعامل بوجوه متعددة ومواقف مختلفة وازدواجية في المعايير مع مَنْ يُحسَب عليهم أصدقاء ، فتارة يُخَطِّئ ويستنكر على مَنْ يُرتب أثراً شرعياً وعرفياً على هذه القبائح والمنكرات والأخطاء فيقول : ما الذي فعلته تلك الدولة أو تلك الجماعة أو تلك المؤسسة أو ذلك الحزب أو ذلك الفرد حتى يستحق اللوم أو النفور عنه أو الطرد أو قطع العلاقات ؟!! ، بينما لا يقول للكذاب والخائن والغادر والمعتدي على حقوق الآخرين والموالي للأعداء لماذا ترتكب هذه الأعمال القبيحة الظالمة وتستخف بالآخرين ؟! ، وتارة أخرى يُحدِّث الصديق الآخر بعكس ما قاله أولاً حيث يطعن بالخائن والجبان والمنافق والظالم ويستنكر أفعالهم وهو في مواقفه المتناقضة يُثبت كونه منافقاً كذاباً وليس صديقاً لأحد منهم ، وهذا من جملة أسباب تفكك المجتمعات وضعفها ووقوع الشعوب تحت سلطة الطغاة والسفهاء والعملاء ، بينما يعلم المسلم بأنَّ الكذب والخيانة والنميمة من الكبائر التي تُخرج الإنسان من دائرة الإيمان وقد توعد الله تعالى عليها نار جهنم ، فكيف نُقرِّب إلينا مَن هو بعيد عن الله تعالى ولا يحكم بحكم الله تعالى وقد توعده بالنار ؟ ، وكيف نوالي مَن هو كافر أو منافق أو فاسق متجاهر أو طاغي أو سفيه وهُم أعداء لله تعالى ؟ ، وقد قال تعالى:(1)[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] ، وقوله تعالى :(2)[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ] ، وقوله تعالى:(1)[قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] ، بل يصل ببعضهم الحال إلى رؤية هذه الأعمال القبيحة على أنَّها حسنَة والعياذ بالله تعالى منهم ومن أفعالهم الشيطانية .
وبما ذكرنا يتبين الأثر السيئ والخطير لمصاحبة العناصر الفاسدة وتمكين الجماعات النفعية من واقع العلاقات الإنسانية ومصالح الشعوب .
فروي عن أبى عبد الله (B) أنَّه قال: كان أمير المؤمنين (B) إذا صعد المنبر قال: (1)[ينبغي للمسلم أن يتجنب مؤاخاة ثلاثة : الماجن الفاجر، والأحمق، والكذاب، فأما الماجن الفاجر فيزين لك فعله ويحب أن تكون مثله، ولا يعينك على أمر دينك ومعادك، مقاربته جفاء وقسوة ، ومدخله ومخرجه عار عليك، وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير، ولا يرجى لصرف السوء عنك ولو أجهد نفسه، وربما أراد منفعتك فضرك، فموته خير من حياته، وسكوته خير من نطقه، وبعده خير من قربه، وأما الكذاب فإنه لا يهنئك معه عيش ينقل حديثك، وينقل إليك الحديث، كلما أفنى أحدوثة مَطَّها بأخرى مثلها حتى أنه يحدث بالصدق فما يصدق ويفرق بين الناس بالعداوة فينبت السخائم في الصدور، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم].
وعن أبي عبد الله، عن أبيه (B) قال(2): [قال لي علي بن الحسين (B):
يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق فقلت: يا أبه من هم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب ، وإياك ومصاحبة الفاسق الماجن من لا يبالى قولا وفعلا. فإنه بائعك بأكلة أو أقل من ذلك ، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه ، وإياك ومصاحبة الأحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك ، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاث مواضع: قال الله عز وجل:[ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم]، وقال:[الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار] ، وقال في البقرة :[ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون] .
وعن أبي عبد الله (B)قال(1) : [احذر من الناس ثلاثة: الخائن. والظلوم. والنمَّام، لأن مَنْ خانَ لك خانَكَ ومن ظلم لك سيظلمك. ومن نمَّ إليك سينمُّ عليك ].
وعن سفيان الثوري، عن الصادق جعفر بن محمد صلوات الله عليه قال(2): [يا سفيان أمرني والدي (B) بثلاث ونهاني عن ثلاث فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم ، ومن يدخل مداخل السوء يُتَهم، ومن لا يملك لسانه يَندم ، ثم أنشدني:
عود لسانك قول الخير تحظ به إن اللـــسان لمــا عـــوَّدت معتــاد
مُــوكَل بــتقاضي ما سنـنت له في الخير والشر فانظر كيف تعتاد
وروي عن الإمام الجواد (B):(1) [إياك ومصاحبة الشرير فانه كالسيف المسلول يحسن منظره، ويقبح أثره].
وقال الشاعر :
لا تربط الجرباء حول صحيحة خوفي على الصحيحة أن تجرب
وروي عن أمير المؤمنين (D)(2) : [وإياك ومصاحبة الفساق فإن الشر بالشر ملحق] .
وعن داود الرقي قال: قال لي أبو عبد الله (B)(3):[انظر إلى كل من لا يفيدك منفعة في دينك فلا تعتدن به، ولا ترغبن في صحبته، فان كل ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحل وخيم عاقبته] .
وعن أمير المؤمنين (B)(4): [قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم].
ومن هنا ينبغي أن يحترز الإنسان في علاقاته من عناصر تتصف بصفات سيئة كالحمق والفجور والكذب والخيانة والنَميمة وأمثالها لأنَّ في صُحبتهم الضرر والندامَة حيث أنَّهم لا يُراعوا حقوق الله تعالى وحقوق الآخرين وبالتالي فلا يكن أحد بمأمن من ضياع حقوقه وتضرره بسبب صُحبته لهم وتعامله معهم ، وكلَّما كانت قضايا الأفراد والجماعات بينهم مهمة كانت المخاطر عليهم أعظم ولذا كان لابد أن يكون نظام العلاقات والسفارة بين الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والدول قائماً على أسُسٍ موضوعية عادلة وحكيمة فلا يُعقل أن يكون الوسيط والسفير ومَن يُمثل حلقة الوصل في نظام العلاقات أحمقاً أو نَمّاماً أو يُحبُّ الفتنة ويسعى لها أو ممن يرتشي أو يبتزّ أخوانه في معاملاته أو يُحتمل في حقِّه عدَّة ولاءات مختلفة أو يُعرف عنه أنَّه يزيد وينقص في الحديث أو يتلاعب بالألفاظ وفق مراميه أو يكذب أو يكون عميلاً مزدوجاً أو لا يؤدي الرسالة أصلاً بل ينقل رسالة مغايرة عن الواقع المطلوب ، وبتمكين وتسليط أرباب هذه المواصفات السيئة على دور رسالي خطير فإنَّه يؤدي إلى إحداث الفتن وتأزيم المواقف والمشاكل والنزاعات وضياع الحقوق والأنفس وتعطيل المجتمعات والأمم عن تنمية قدراتها نحو التقدم والازدهار ، وحينئذٍ لابد من اتخاذ المحاذير الشديدة وإبعاد وعزل هذه العناصر الفاسدة عن أخذ أي دور مهم في حياة الناس رعاية للسلامة والأمان والاستقرار والحفاظ على الحقوق والأنفس والأعراض.
وكان من جملة ما يتأثر به الناس في علاقاتهم هو اعتمادهم على الإعلام الكاذب والإشاعات المُغرضة والنزاعات الحزبية والمصالح السياسية حتى شاعت بينهم ثقافة التجريح والتسقيط وكتابة التقارير الكيدية المبنية على الكذب والخيانة والنميمة .... والتفنن في صياغتها وقد أصبحت هذه الأمور ظاهرة شائعة ولها سوق رائج وروّاد كُثُر لشيوع الأحزاب وأوكارهم التي تستفيد من هذه الأفعال القبيحة لارتباط مصالحهم السلطوية والمادية بتفريق المجتمعات والشعوب وبتجريح وتسقيط من يكون عقبة في طريقها ولو كانت العقبة فيها النصيحة لهم أو فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب الحذر من هؤلاء الذين يحرقون الأخضر واليابس من أجل أطماعهم الدنيوية التي لا تمتلئ منها جيوبهم وبطونهم وقصورهم ومصارفهم .... كما لا تنتهي أنفسهم عن متابعة الهوى لوجود الغشاوة على قلوبهم وعقولهم وفقدان الوازع الديني ، واعلم أنَّ هذه الجماعات إذا دخلوا قرية أفسدوا فيها وجعلوا أعزّة أهلها أذلة وعاليها سافلها وفرّقوا أهلها شيعاً متناحرين ، وفي أجواء هذه الجماعات والابتلاء بها تنكشف الصداقات من غيرها وقد قال تعالى : (1)[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ].
وهنا لابد من اليقظة إلى أنَّه ليس من البساطة بمكان وقوع الأمور السيئة التي ذكرناها بين الأصدقاء الصدوقين المُتقين إلا إذا انكشف كون هذه الصداقات وهمية وليست حقيقية فتكشفها الأيام ونوائب الدهر والابتلاء فتعلم حينئذ واقعهم ويكون مصداقاً لما رواه معمر بن خلاد حيث قال : سمعت أبا الحسن (B) يقول: كان أبو جعفر (B) يقول: (2)[لا يخنك الأمين ولكن ائتمنت الخائن].
وبمجرد الاحتكاك البسيط وحصول ما يُكدِّر الصفو في العلاقات فإنَّه يستعجل العجول صاحب العلاقة المُزيَّفة ليُكَشِّر عن أنيابه وتظهر الوجوه على حقيقتها وتنكشف فوضويته وجبنه وبُعْده عن الانضباط والالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاق كما في قوله تعالى:(3)[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا].
وهؤلاء هُم ممن يبحثون عن الدنيا للدنيا في رؤية مادية ومصالح شخصية ضيِّقة ويجعلوها موضع بقائهم واهتمامهم وعافيتهم ، وقد وصفهم سيِّد الشهداء الإمام الحسين (B) بقوله:(4)[إن الناس عَبيدُ الدنيا والدِّين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما دَرَّت معايشهم فإذا مُحِصُوا بالبَلاء قَلَّ الدَيَّانون].
ولذا تجد هؤلاء العبيد للدنيا الذين يجبنون في مواقف الحق والصدق والعدل والذين يهربون من مقاومة الباطل تحت ذرائع واهية ومكذوبة ، وهذا التصرف المتخاذل يدفعهم إلى إبراز وجوههم القبيحة المنافقة عند وضعهم تحت المساءلة والحساب فيُظهرون التحدي والعمل بالمواجهة العدوانية التي تعتمد الكذب والنميمة والخيانة والتهديد بكشف الأسرار وممارسة الابتزاز المادي أو المعنوي من أجل فرض السياسات الشيطانية والمصالح الخاصة وهذا على فرض وجود أسرار حقيقة لها أثر مهم في حياة الناس وإلاّ فكثير من هؤلاء المُفلسين والخاسرين تجدهم يتحدثون عن أسرار مُخترعة هي من نسج الخيال ووسوسة الشيطان تتلاءم مع تطلعاتهم الشخصية وأهدافهم المريضة فيكذبون للإضرار بالآخرين وتفريق الناس والعمل بالنميمة وسائر الوسائل الشيطانية لإنجاح مآربهم وإلا لو كانت صحيحة فلماذا رضوا بها وسكتوا عنها طوال سنوات بقائهم مع أصحابهم وكانوا شركاء في تلك الأحاديث السرِّية والتي ربما هُم أصلها وفرعها فيكون من الأجدر أن يُحاسَبُوا عليها قبل غيرهم ؟!!! أو أنَّهم يتحدثون عن أسرار مكذوبة من أجل التقرب إلى أسيادهم زلفى والظهور أمامهم بأنهم نشطاء أذكياء في جلب المعلومات السرِّية فيرضى عنهم الأسياد وينالوا منهم ما يبتغون ، وقد وصل الحال بمستوى كثير من المخابرات العالمية من إنتاج معلومات كاذبة عن بعض الدول أو الجماعات أو الأشخاص بعنوان أنها أسرار خطيرة وتبَيَّن أنَّ الجاسوس وكاتب التقرير كان يكذب عليهم من أجل مصالح خاصَّة وطبيعة نفسية شرِّيرة ، وهكذا الحال في ممارستهم الطعون وتلفيق التُهم والأباطيل الشيطانية واللجوء إلى الأعداء علانية بعدما كان الاتصال بهم سرّاً والمجاهدة على عمل التكتلات والتحالفات لإعلان جبهة للحرب والعدوان ، ولو اطلَعتَ عليهم سابقاً لَوَلَّيت منهم فرارا ، وقد قال الإمام علي (B):(1)[غاية الخيانة خيانة الخِل الودود ونقض العهود].
وفي خِضَم هذه الأجواء لو ثبت من الصديق أنَّه ارتكب فعلاً قبيحاً اتجاه أصدقائه ولأول مرَّة فيُمكن أن يتم التعامل معه بما يُناسبه من الحكمة والموعظة الحسنة والقضاء العادل الذي يرضى فيه من صديقه بالتوبة النصوح والاعتذار والتعهد والقسم بعدم العودة إلى فعله وإلى ما يشابهه ومعالجة مواقفه بما يأمر به الشرع الشريف ، هذا مع تَحَمّل الموقف بطبيعته ونوعه هذا الأسلوب من التعامل ، ولكن لو انكشف حاله من تكرار هذه الأعمال القبيحة وبمختلف الحالات والأوضاع والجهات حيث يتصل بمختلف الأعداء المحاربين سرّاً أو علانية فالأمر حينئذٍ يختلف وقد قال تعالى : (2)[فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ] ، وقال تعالى : (3)[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ].
وربما يتصور ساذج ممن لا يفرز بين الصديق والأخ الكاشر والعدو أنَّه يستطيع استيعاب جميع الناس بصداقاتٍ برغم ما يحملون من حق وباطل وحلال وحرام وصدق وكذب وعدل وظلم وخير وشر وحسَن وقبيح في مواقف بعضهم للبعض الآخر فيتعامل معهم بالسوية فلا يُغضب أحداً منهم ويُوالي الجميع ويحترم الجميع ويتعامل مع الجميع لأنَّه لا يهتم للمظلوم ولا ينتصر له ولا يُبالي للحق والعدل ما دامت مصالحه مع الجميع محفوظة فيلغي دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة في حياته ويَدَّعي كذباً وزورا أنَّه يُحبُّ الجميع مما يجعله لا يتخذ موقفاً شرعياً عادلاً خوفاً على مصالحه فيقول في نفسه أو لغيره : الأمر لا يعنيني ، ولا يهمني ، ولستُ طرفاً فيه ، ولا يملئ جيبي ، وما عسايَ أن أفعل لو اتصل بي العدو ، وأكون متفرجاً خير لي من أن أكون مُصْلِحاً فيجرني إلى موقف قد أصْطَف فيه مع طرف دون طرف آخر فأخسر بذلك صداقتي مع ذلك الطرف ، وتصرفه هذا يكشف بوضوح أنَّه ليس صديقاً لأحدٍ منهم ولا يرجو لهم الخير و لا يتعامل بالأخوة الإيمانية لأنه ليس بمؤمن ، وفاقد الشيء لا يُعطيه بل هو يؤمن بالمصالح والتي هي مرحلة وقتية يُمرِّرها لتحقيق أهدافه وبالتالي فهو خارج عن المسلكية الشرعية ولا يُحبُّ أحداً منهم في الواقع وإنما يُحبُّ نفسه ومصالحه فقط وهذا من النفاق لأنَّه يُخالف صريحاً الأوامر الإلهية وسيرة الأنبياء والأوصياء والأصدقاء الصدوقين في مواقفهم الرسالية التي يكون فيها المنافقون والانتهازيون النفعيون والمرتزقة والعُصاة المردة والطُغاة المستكبرين وبطانتهم أعداءاً لدعاة الحق والعدل ، ومن جملة أسباب العداء للدعاة الرساليين والمؤمنين الصادقين لأنهم يُُفرزون ويُمَيِّزون في مواقفهم ومسيرتهم بين الحق والباطل والعدو والصديق والمؤمن والمنافق و... وبالتالي فإنَّ وجود الأعداء في حياة الأنبياء والأوصياء والدعاة لم يكُن من صُنع أولياء الله ودعاة الحق وقصدهم (حاشاهم) بل من صُنع أعداء الله تعالى الذين لا يخضعون للحق والعدل بل يبغضونه ويُحاربونه ولأنهم لا يُريدون الهداية والاستقامة والصلاح إلا بالقدر الذي يَصبّ في مصلحتهم وأهدافهم ولذلك فهُم يُعادون الدعاة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُحدِّثون بالنصيحة ويسعون نحو الإصلاح فيتخذون إزاءهم المواقف العدائية فتحدث الخصومة والبغضاء ، ويكون هذا المراوغ المنافق ذو الطباع السيئة الذي يدَّعي الحُب للجميع والوقوف مع الجميع والتعامل مع الجميع قد باع دينه وأخلاقه وعلاقاته التي يزعم أنَّه صديق فيها بـأبخس الأثمان الزائلة ، فتجده يقوم بتزييف الحقائق والاستخفاف بها واستصغار الكبائر كالكذب والخيانة والنميمة والتعدي على حقوق الصداقة والتحلل منها وتهوينها ويتعامل بوجوه متعددة ومواقف مختلفة وازدواجية في المعايير مع مَنْ يُحسَب عليهم أصدقاء ، فتارة يُخَطِّئ ويستنكر على مَنْ يُرتب أثراً شرعياً وعرفياً على هذه القبائح والمنكرات والأخطاء فيقول : ما الذي فعلته تلك الدولة أو تلك الجماعة أو تلك المؤسسة أو ذلك الحزب أو ذلك الفرد حتى يستحق اللوم أو النفور عنه أو الطرد أو قطع العلاقات ؟!! ، بينما لا يقول للكذاب والخائن والغادر والمعتدي على حقوق الآخرين والموالي للأعداء لماذا ترتكب هذه الأعمال القبيحة الظالمة وتستخف بالآخرين ؟! ، وتارة أخرى يُحدِّث الصديق الآخر بعكس ما قاله أولاً حيث يطعن بالخائن والجبان والمنافق والظالم ويستنكر أفعالهم وهو في مواقفه المتناقضة يُثبت كونه منافقاً كذاباً وليس صديقاً لأحد منهم ، وهذا من جملة أسباب تفكك المجتمعات وضعفها ووقوع الشعوب تحت سلطة الطغاة والسفهاء والعملاء ، بينما يعلم المسلم بأنَّ الكذب والخيانة والنميمة من الكبائر التي تُخرج الإنسان من دائرة الإيمان وقد توعد الله تعالى عليها نار جهنم ، فكيف نُقرِّب إلينا مَن هو بعيد عن الله تعالى ولا يحكم بحكم الله تعالى وقد توعده بالنار ؟ ، وكيف نوالي مَن هو كافر أو منافق أو فاسق متجاهر أو طاغي أو سفيه وهُم أعداء لله تعالى ؟ ، وقد قال تعالى:(1)[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] ، وقوله تعالى :(2)[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ] ، وقوله تعالى:(1)[قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] ، بل يصل ببعضهم الحال إلى رؤية هذه الأعمال القبيحة على أنَّها حسنَة والعياذ بالله تعالى منهم ومن أفعالهم الشيطانية .
وبما ذكرنا يتبين الأثر السيئ والخطير لمصاحبة العناصر الفاسدة وتمكين الجماعات النفعية من واقع العلاقات الإنسانية ومصالح الشعوب .
" المصدر : كتاب سلوك الطريق لمعرفة الصديق "
لسماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي -دام ظله-
لسماحة آية الله الفقيه السيد ابو الحسن حميد المقدس الغريفي -دام ظله-
اضف تعليقك هنا .. شاركنا برأيك .. اي استفسار او اضافة للموضوع ضعه هنا
اذا احببت اختر التعليق باسم : ( الاسم / عنوان url ) اكتب الاسم فقط واترك الخيار الثاني فارغ
ثم اضغط على استمرار واكتب تعليقتك